منذُ صغري -->
حياة حياة

منذُ صغري

عندما كنت طفلةً كنت أحبُّ البالونات كثيراً، كنتُ أشتري العشرات منها بكلِّ الألوان، أحملها من مكانٍ لآخر، وأخبئ بعضها تحت الوسادة بانتظار أن يصبحوا كثيرين جداً للحدِّ الذي لا أستطيع عدهم فيه، ثمَّ أنفخهم معاً وأطير بهم جميعاً لأعيش في السَّماء.
إنها تشبهني!، تطير مثلي وتحلِّق لأعلى السماء، تسبح في فضائها بلا أقفاص!
كبرت قليلاً وعرفت أن البالونات عندما تحبس بداخلها الهواء لفترةٍ طويلةٍ تتعب!، تبدأ بشرتها بالضعف ومن ثمَّ تصغر وتضعف وتموت..، أو ربَّما تنفجر، تنفجر لأنها حملت بداخلها الكثير ولم تجد من يأخذ حملها الثقيل عنها، لا أشبهُ البالونات، أنا لا أحبس بداخلي، أحتاج إلى من يشاطرني حزني الجبَّار!
..
الغيوم كبيرةٌ جداً، كافيةٌ لتحتوي كلَّ شعوري، كافيةٌ لتحتوي حزني وفرحي وكلَّ ما يختلج في قلبي، هي بيضاءُ صافيةٌ  نقيَّة، يتغيَّر لونها بحسب مزاج السَّماء، لذلك ستكون معي في كلِّ شعور لتمثِّله بلونها الخلَّاب، أحمر.. ورديّ.. أبيض ناصع.. أبيض مختنق.. وربَّما رمادي، صحيح رمادي!، عندما تحمل الغيوم الكثير من الشُّعور ستنفجر يوماً، ودويُّ الغيوم أعلى بكثيرٍ من دويِّ بالونٍ صغير..
ستمطر علينا شعوراً، احتفالاً بفرحةٍ أو سخطاً لحزنٍ بالغ، ستبكي حزناً على ما حصل للسَّماء وعلى ما أصاب قلبي، ستبكي على حزني الأزرق القاتم، وجرحي الذي ترك أثره شاحباً على جلدي وملامحي، ستبكي على سخرية القدر، تبكي حتى تعود من لونها الرمادي المختلج إلى الأبيض الناصع، حتى أشكو لها مرَّةً أخرى ومن ثمَّ تعود لتختنق وتكمل بكاءها المر حزناً عليّ.
..
ربَّاه؛ ما أجمل نجوم السَّماء!، منيرةٌ، لا تظهر إلا مساءً، تختبئ في حضرة الشَّمس العظمى، كثيرةٌ هي؛ تتهامس مع بعضها لتحكي قصص العاشقين، لطيفةٌ هي، تتلألأ كما تلمع عيناي عندما كنتُ ألعب مع البالونات وكما كنتُ أبكي مع الغيوم، تتزاحم على وجه السماء كلَّ ليلةٍ منتظرةً مني قصةً جديدة وبيتَ شعر،أصدقائي الجدد.. هم النُّجوم، ربَّاه ما أجملهم!، يتراكضون على وجنة الكون، يغيبون ويعودون كلَّ ليلة وينيرون عندما أكون سعيدة، في أحد الأيام كنتُ سعيدةً جداً فشعرت بهم ينيرون في وجنتَي، ويرقصون على أصابع يديّ، يومها انتظرت حلول الليل لأحكي لهم عمّا حدث، وكانت ليلةً قمراء خاليةً من النُّجوم!، كانت مختبئةً تلك الليلة لتتركني وحيدةً مع القمر الذي سخر منِّي لأنني أعطيت ثقتي مجدَّداً لمن لم يستحق.
..
عندها جلستُ أتمعّن للحظةٍ فوجدت آلاف الأسئلة التي تجول في رأسي وبدأت أجيب عنها واحداً تلو الآخر؛
لتكون الإجابات جميعاً تشير إلى شخصٍ واحدٍ فحسب.. أنت.
منذُ صغري بحثتُ عن الحب، أحببتُ البالونات التي وجدتُّك فيها، بتحمُّلك لي وبوجودك معي وبقربي، ولأن حبَّك يجعلني أطير إلى السَّماء السَّابعة، كنتَ الكثير من البالونات لقلبي، معك أحلِّق.. وأسبح في فضاءٍ لا حدود له، فضاءٌ واسعٌ وسع قلبك الذي احتواني.
كنتُ دوماً أبحث عنك، وعن كتفك الذي كان ليِّناً ليكون منزلي، كان مريحاً كما الغيوم، أنتَ غيمتي!، غيمتي التي تمطر عليَّ حباً وتجلجل رعداً وتحمل الكثير من الشُّعور، غيمتي التي تحميني من حرِّ الشمس، غيمتي التي لم يصبها اللون الرّماديُّ أبدا!.
منيراً مشعاً!، ملأتَ حياتي المظلمة وحوَّلتها إلى لوحةٍ كلُّ الجمال فيها كان أنت، أضأت طريقي الحالك كيراعاتٍ أو ربّما نجوماً!، لقد كنتَ كلَّ نجومي التي أبعدت عني الحزن والظلمات!.
منذُ صغري وأنا أبحثُ عنك يا أنت، وجدتُكَ في فراشةِ الربيع، وقطَّةِ المنزل، وجدتك في رائحةِ طعام أمِّي وفي فنجان قهوتي، وجدتُك في رائحةِ الأرض بعد هطول المطر، وجدتكَ في المطر، في الزهر، في فصول السنة وأوراق الخريف التي قاومت السقوط، في حُضن أمي وسجادة الصَّلاة، في نبضات قلب أبي عندما يحملني، في ضحكة الطفل الصغير وياسمين منزل الجيران، في رائحةِ خبز الفرن ساعة شروقِ الشمس.. في شروق الشّمس، وجدتك في كلِّ جميلٍ في وطني.. لأنَّك وطني، وطني الذي أعشقهُ لحدِّ الجنون، وطني الذي لن يغزوه أحدٌ ليعربد على عرشه، وطني الذي أحميه ويحميني، وطني الذي أنتمي إليه.. ولن ينتمي إلَّا إلي!.

- عائشة الحسن


التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

حياة

2016